ظاهرة التغيب عن العمل: عندما تخوض الحكومة معركتها في الميدان الخطأ







ظاهرة التغيب عن العمل:  

 عندما تخوض الحكومة معركتها في الميدان الخطأ


في إطار استعادة الدولة لهيبتها المفقودة نتيجة الارتباك الذي حصل لأجهزتها منذ اندلاع التحركات الشعبية المناهضة للاستبداد في 17 ديسمبر 2010، عملت الحكومة التونسية على معالجة أحد أهم الظواهر الناتجة عن حالة التسيب والانفلات في جميع المستويات التنظيمية من الدولة وهو التغيب عن العمل، وفي هذا الإطار تمت العديد من المحاولات لرصد الظاهرة وفهمها وبحث السبل الأقل صدامية لمعالجتها إلا أنها ما تزال تضل الطريق وتخوض معركتها في المكان الخطأ.

ولئن لم تكن ظاهرة الغيابات جديدة أو غريبة عن بيئة العمل إلا أن تعطيلها لسير دواليب الدولة وإثقالها كاهل المجموعة وتأثيرها السلبي على العمل كقيمة اجتماعية وثقافة وأداة للتنمية هو ما يجعلها اليوم في صدارة الاهتمام في دولة لا تكاد تبارح "الصفر فاصل" من النمو فيما تتراجع جل مؤشراتها الاقتصادية والإنتاجية .

بادرة إيجابية .. ولكن؟
اليوم وللمرة الألف التي يتم فيها العمل على إرساء ثقافة العمل في القطاع العمومي تتقدم وزارة الوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد بخطة عمل على مرحلتين: مرحلة توعوية تأطيرية لمدة عشرة أيام ومرحلة ردعية يتم فيها تطبيق القانون على أساس مبدأ استحقاق الأجر تبعا للعمل المنجز مع تمكين رئيس المصلحة من إدخال المرونة على توقيت عمل بعض الأعوان حسب ظروفهم الخصوصية .
وهذه البادرة في حد ذاتها نقطة إيجابية يتعين تثمينها لإلقاء حجر في بركة الفساد الراكدة إلا أنها للأسف تسير على نهج سابقاتها في المرور بجانب المشكل في حين أن المقاربة الصحيحة للحل ستجعل المشكل يزول تلقائيا.
صحيح أن التوعية والحوار هما أداة التعبئة للجهد الجماعي والعمل التشاركي ولكن هل يكفي الحوار المستتبع بالردع لحل المشكل من جذوره ؟
طبعا لا . فالحوار والتأطير يعتمد فيهما النجاح على الحجة ودرجة الإقناع فهل نحن قادرون على إقناع نصف مليون عون عمومي بقيمة احترام الوقت ومواعيد العمل وتقديم أقصى الجهد مع القفز عن مشاكلهم الخصوصية ومعاناتهم اليومية مع ظروف النقل والتوقيت المدرسي وخلاص الفواتير وغيرها مما يلتهم وقت العون التهاما.
وهل أن الزيادات في الأجور التي تستند إليها الحكومة لمطالبة الأعوان بتقديم المقابل من الجهد الإضافي والانضباط هي منظور لها من الزاوية نفسها من قبل العون العمومي الذي يرى في مستوى تأجيره أقل بكثير من جهده وكفاءته وطموحه ؟

ملف الغيابات هو ملف فساد
يبدو حقا أن الحكومة وأعوانها لا ينظرون إلى القضايا من الزاوية نفسها، فالحكومة التي تطارد بشراسة بعض الذين يتأخرون في الدوام أو الذين يغادرون مكاتبهم دون إذن لبعض الوقت - وهي في ذلك محقة كل الحق- هذه الحكومة هي نفسها من يغض الطرف عن ملفات فساد خطيرة جدا تتعلق بأعوان لا يباشرون مهامهم أصلا أو يتمتعون بأجور دون أن يكون لهم وجود على التراب التونسي نهائيا ، كما تغض الحكومة الطرف عن آلاف الأعوان المتمتعين بعطل المرض طويل الأمد بينما هم يباشرون مهنا موازية وينتفعون بمداخيل مالية متعددة من باب الذكاء والفهلوة (وقد ذكر وزراء الصحة والتربية عينة من هذه الحالات) علما وأن هذا النوع من الفساد لا يتم إلا بتواطئ من جهاز الإدارة نفسه، كما لم يتم فتح ملف الشهادات الطبية المتواطئة والتي يجرمها القانون. 

الحكومة أيضا ترفض فتح الملف الأخطر في الوظيفة العمومية والذي يمس نخبة النخبة من الإدارة وهو ملف التجميد حيث يقضي عدد من المغضوب عليهم أيامهم في الإدارة يطالعون الصحف ويبحرون في الانترنت دون أن توكل لهم مهمة أو دور أو وظيفة، فقط لأن هنالك من في القيادة الإدارية غير راض عنهم، عقوبة لم ينص عليها لا قانون ولا شرع ولا عرف، وكان الأحرى لو أن من يمارس التجميد على الأعوان الذين يتقاضون أجورهم هو من ينال عقاب إهدار المال العام والوقت والجهد.

الفساد أيضا يمس منظومة الانتداب والمسار المهني حيث ينجح البعض بطريق الرشوة والمحاباة في ولوج الإدارة أو المؤسسات العمومية وعندها تبدأ رحلة الاستهتار بالوظيفة العمومية إما لنقص الكفاءة وانعدام المؤهلات أو كنوع من التشفي أو لوجود الواسطة القوية التي تحمي العون من العقوبة عن التجاوزات في حضور الوزن بمكاييل متعددة.

الحكومة أيضا لم يكن لها الجرأة في معالجة ملف إعادة توظيف الأعوان وتوجيههم حسب متطلبات العمل ومصلحة الإدارة مع مراعاة الأوضاع الخصوصية لهؤلاء الأعوان. فالإدارة التي استعملت الانتدابات في الوظيفة العمومية طريقة لامتصاص الضغط على سوق الشغل والتي اعتمدتها أداة للمصالحة الوطنية عبر انتداب المتمتعين بالعفو التشريعي العام لم تحسن توظيف هذا الرصيد البشري الهائل، حتى أننا نجد اليوم في مركز العمل الواحد العديد من الأعوان الذين يتواكلون بعضهم على بعض أو يتنافسون على مركز العمل إلى الحد الذي لا يجد فيه العون مبررا لدوامه (مجبر على عدم العمل ويتمتع بأجوره).

حتى محفزات العمل المرتبطة بالأداء كمنحة الإنتاج والعدد الصناعي والتربصات بالخارج أصبحت تسند بالمحاباة للمقربين ولا تعكس ضرورة جودة العمل ولا إخلاص الموظف ولا حضوره في وقته كما لا يتمتع العون بأي تحفيز استثنائي عن جهوده الاستثنائية ولا حتى بكلمة إطراء ما يدفعه لتقديم الحد الأدنى المطلوب من الجهد والحضور.

أما الفساد الأكبر الذي يتم تجاهله في هذه المرحلة فهو التعطيل عن العمل بغطاء من اتحاد الشغل حين يسد المحتجون باب العمل عن الراغبين في العمل لحسابات نقابية أو حزبية أو مصلحية ضيقة.

ممارسات الحكومة بدورها أصبحت قاتلة لقيمة العمل حيث لا يتمتع بالزيادة وبمراجعة الأنظمة الأساسية إلا المحتجون الأكثر صراخا والأقل عملا بينما من يعملون في صمت وصدق يمارس عليهم أقصى درجات الاضطهاد ووصد الأبواب بداعي الحفاظ على  التوازنات المالية للدولة وبداعي الوطنية ومقتضيات المرحلة، أما في المسار المهني فلا يتمتع بالترقيات والترقيات الاستثنائية عادة إلا المقربون وأصحاب الخدمات الخصوصية. 

الإدارة هي مجتمع يقوم في الحقيقة على جملة من التوازنات والمصالح وليس على القانون مثلما هو مفترض، وطالما أن هذه التوازنات هي من يحكم المنظومة فإن الظواهر السلبية ومنها الغيابات ستظل مستمرة وستستمد شحنتها من غياب العدالة والظلم وازدواجية المعايير والفساد.

الحكومة تخوض معركتها في المكان الخطأ لأنه كان يتعين أن توجه نقدها لسياستها وليس لأعوانها، فالمصالحة بين العون ووظيفته لا تحتاج إلى الوعظ بل تحتاج إلى أن نعود بقيمة الإدارة إلى أيام زمان حين كان الموظف يشعر أن الإدارة هي بقدسية بيته ، حين كان لطب الشغل مكان يضمن سلامة العون وإحساسه بأن هناك من يرعاه، حين كان للرياضة في الشغل مكان ليضمن لياقة العون وتوازنه النفسي والجسدي، حين كان للنشاط الاجتماعي مكانه لتوفير الإحاطة بالعون في أفراحه وأتراحه ويشعره بالأمان ، حين كان للنشاط الثقافي مكانه لتفجير الطاقات الإبداعية الموازية لدى العون من شعر ومسرح وغناء وأدب وبحث...
أما اليوم فالموظفون العموميون يعملون تحت الضغط والإكراه في مناخات متسممة تحت التهديد والوعيد والوعظ في ظروف عمل رديئة جدا في بعض المؤسسات.

الأدهى والأمرّ هو أن هذه السياسات الحكومية المدعومة بإحصائيات ما أنزل الله بها من سلطان ولا يقبلها عقل ولا منطق ولا أخلاق والتي تقول إن العون العمومي لا يعمل في اليوم الواحد إلا لبضع دقائق هي ما يعمق أزمة الوظيفة العمومية حين يتحول خطاب الدولة إلى تحريض للمواطنين على الموظفين وحين لا يجد الموظف نصيرا من الدولة عند الاعتداء عليه رغم أن الدولة هي المسؤولة عن حماية موظفيها وتحل محلهم في كل النزاعات الحاصلة إبان مزاولتهم لمهامهم.

للأسف لم تفهم الحكومة بعد أنها على الطريق الخطأ وأنها لن تنجح في حل معظلة الغيابات إلا بالتوزيع العادل للأعباء والمسؤوليات بين الأعوان وجعل التنافس في العمل هو الأساس الموضوعي للارتقاء المهني. 
لقد حان الوقت لمعالجة المشكل دون شعبوية أو تحريض من خلال الإحاطة المهنية والنفسية بالأعوان العموميين واعتماد معايير التقييم الموضوعية ومتابعة الحضور بمنظومات تكنولوجية متطورة لا تحابي ولا تجامل ولا تعادي.
حان الوقت كذلك لشغل العون العمومي بالعمل المجدي وليس إجباره على الحضور العبثي المهدر لوقته وطاقته ومواهبه. حان الوقت لوضع الرجل المناسب في المكان المناسب ومراعاة التناسب بين كفاءة العون ومستواه العلمي وبين المهام الموكولة له مع دعمه بالتكوين الملائم فقد أصبح من السخف أن تجد مستشاري المصالح العمومية وخريجي المراحل العليا للمدارس والجامعات التونسية وهم يتخلون عن وظائف التخطيط والبرمجة ووضع الاستراتيجيات وتصور السياساتويطلب منهم احترام الوقت ليقوموا بمهام روتينية تحت إشراف رؤساء إدارة أقل منهم مستوى أو كفاءة أو حتى قناعة بقيمة التخطيط والاستشراف ولا فضل لهم  إلا في أقدمية، الله وحده يعلم إن كانوا أفادوا بها الإدارة في شيئ .
لقد أصبح من العاجل وضع بنك الكفاءات والتصرف فيه بموضوعية لاختيار أحسن الكفاءات لمختلف المناصب والوظائف والمهام بعيدا عن لغة "هذا متاعنا وهذا خاطينا".

الإشكال المنهجي في تقييم الظاهرة

لأنها المرة الألف التي يتم فيها تقييم حضور الأعوان فلا بد من الإشارة إلى وجود مشكل منهجي في عملية التقييم التي انبنت في الأساس على مغالطات حول حقيقة الغيابات فجل زيارات التفقد الميدانية قدمت إحصائيات جملية عن نسبة الغياب ولكنها لم تحدد نسبة الغياب غير الشرعي منها، حيث يتبين لاحقا أن جل الغيابات شرعية وقانونية حيث يتمتع العون بـ48 ساعة لتسوية وضعيته، كما أن الغياب غير الشرعي غير المصرح به هو لا يكون إلا بتواطئ المسؤول الأول عن الإدارة أو الرئيس المباشر أو مصالح متابعة الحضور بإدارة الموارد البشرية أي أنه فعل إجرامي يقوم على تزييف الواقع ويصنف فسادا وفيه مشاركة في الفعل.

التنسيب الثاني الذي يمكن تقديمه يتعلق بالإحصائيات التي، كما بيننا ، فإنها تفتقر إلى الحد الأدنى من الجدية والأخلاق مهما كانت طريقة القياس ، كما أن القياس يجب ألا يشمل فقط عدد ساعات غياب العون عن الإدارة ولكن أيضا كمية العمل المهدور حتى حين يحضر العون لأنه هنا تحصل المفاجئة الكبرى في الفارق بين الحضور الجسدي والحضور المتكامل الجسدي والذهني والنفسي. ذلك أنه من أشكال مقاومة العون العمومي للإكراه على الحضور هو استنزاف الإدارة بقلة العمل الحضوري ورفع استهلاك موارد الدولة ورفع نفقاتها أو من خلال خلق التوتر في أجواء العمل.
التقييم أيضا لم يأخذ يوما في الاعتبار أصنافا من الأعوان الذين، ودون أي إلزام قانوني، يعملون قبل الدوام القانوني وبعده وفي أيام الراحة الأسبوعية وفي بيوتهم بعد الدوام حيث لا تقدر الإدارة جهودهم ولا يحتسب رجال الإحصاء والسبرعطاءهم  .
هي رسالة مضمونة الوصول لمن أراد إصلاحا .

عبدالمجيد المكي 
abdelmajid.mekki2@gmail.com




شارك الموضوع عبر جوجل+

عن Unknown

المنظمة التونسية للدراسات الاستراتيجية، هي جمعية تطوعية ذات صبغة علمية بحثية تنشط في مجال البحوث والدراسات الاستراتيجية . تهدف المنظمة التونسية للدراسات الاستراتيجية إلى : إجراء الأبحاث والدراسات العلمية والتطبيقية في مجالات التخطيط الاستراتيجي توفير فضاء فكري ملائم لاستيعاب الأفكار والدراسات في قضايا التنمية ووضعها على ذمة صناع القرار. المساعدة على تأطير أعمال البحث الاستراتيجي والأكاديمي والعمل على إنجاحها وتنزيل خلاصاتها في الواقع. .المساعدة على نشر ثقافة التخطيط الاستراتيجي.
    تعليق عبر بلوجر
    تعليق عبر فيسبوك

2 commentaires :

  1. ظاهرة التغيب لها عدة عواملمن بينها أن الموظف لم يتم تكليفه بمهمة للقيام بها وفي أغلب الأحيان يتم حصره في مكتب طيلة اليوم بدون حراك مما يتسبب له في كثير من الضجر والقلق يؤدي به إلى البحث عن مآرب أخرى منها التغيب أو مغادرة مقر العمنل قبل الوقت القانوني وأما من بقي في مكتبه بدون عمل فيصيبه الاكتآب والسمنة والسكري وضغط الدم، فكمية العمل بالكاد أن تكفي واحدا من عشرة، فما العمل؟

    ردحذف
  2. كان قانون الوظيفة العمومية قبل سنة 1986 يفرض نظام الخطة بمعنى أنه يمنع الانتداب إلا عند شغور الخطة وكان هذا الإجراء يوفر توازنا بين ما يتطلبه تسيير المرفق العام من زاد بشري دون زيادة أو نقصان لكن الدولة بعد سنة 1986 تخلت عن ذلك الشرط وأصبحت تنتدب فوق اللزوم بسبب ضغط طالب الشغل وسهولة إحداث الخطة بالوظيفة العمومية فتسبب في تراكم عدد هائل من الموظفين بدون عمل ولم تتحسن الخدمة الإدارية وأصبح التنافس على المنافع الإدارية بين الموظفين أنفسهم . وعلى الدولة أن تقوم بإصلاح شامل يبدأ بتطهير قطاع الوظيفة العمومية والترفيع في سن التقاعد خطأ كبير.

    ردحذف