دون مزايدات على حكومة يبدو أنها تبذل ما في وسعها للخروج بالبلاد من مأزق اقتصادي متراكم منذ سنة 2011 يمكن القول إن حكومة يوسف الشاهد كانت مخيبة للآمال من خلال قانون المالية لسنة 2018 والذي يعكس بوضوح محدودية رؤيتها الظرفية وحتى الإستراتيجية لمستقبل تونس وضيق أفقها في ما يتعلق بحسن استثمار أوراق اللعب المتاحة لها.
الميزانية المبيتة
ميزانية تونس لسنة 2018 لم تكن في الحقيقة سوى الميزانية الفعلية التي كانت مبيتة لسنة 2017 ولكن الأرضية السياسية والاجتماعية في ذلك الوقت لم تكن مهيأة لها بالشكل الكافي وحكومة السيد يوسف الشاهد لم تكن قد ثبّتت أقدامها وركزت تحالفاتها بما يكفي لتمريرها ولذلك تم التلويح بالاجراءات التقشفية المشددة في خطابات الشاهد دون استعمالها فعلا.
وللتذكير فإن حكومة الشاهد هي الحكومة التي تأسست على أنقاض حكومة السيد الحبيب الصيد التي أطاحت بها جماعة وثيقة قرطاج بسبب تورطها في أمرين أساسيين اثنين لم تغفرهما لها المنظومة الحاكمة وهما: الامتناع عن عسكرة مواقع الإنتاج للفسفاط والبترول والموافقة على الزيادات في الأجور فضلا عن مواصلة التشغيل في الوظيفة العمومية.

2017 وضياع دورة التدارك

لماذا ميزانية 2018؟
كانت شراسة الإجراءات الاقتصادية لقانون المالية لسنة 2018 متوقعة لأنه لم يكن بالإمكان تأجيل هذه الإجراءات التقشفية الحادة والزيادات في الأسعار والضرائب إلى سنة 2019 فهي السنة الانتخابية التي يتعين أن يشعر فيها الشعب ببعض الانفراج حتى يعيد التصويت لمنظومة الحكم الحالية وأدواتها، هذا دون اعتبار حلول آجال سداد بعض الديون الخارجية التي لا نثق صراحة في أنها استعملت بالشكل الأمثل في ظل تدهور منظومة الرقابة في تونس وعدم نشر تقاريرها للرأي العام.
قانون المالية والميزانية الملحقة به حظيا للأسف بتزكية من مجلس نواب الشعب الذي يبدو أن جهوده لم تنصب عند المناقشة على فهم طبيعة أحكام القانون وتوزيع الموارد والنفقات به ولا على مدى خطورتها على التوازنات الاقتصادية والسّلم الأهلي، بقدر ما انصبت هذه الجهود على مهاجمة انخرام الميزان التجاري بين تونس وتركيا، وربما لهذا السبب بدت بعض الأحزاب وبعض الكتل البرلمانية بل وحتى الاتحادات الوطنية (الشغل والأعراف والفلاحين) وكأنها تكتشف القانون لأول مرة وذلك في معرض ردود أفعالها عن حفلة الزيادات في الأسعار التي بادرت بها الحكومة منذ فاتح جانفي 2018 حتى أن بعضا ممن سبق أن وافق على القانون أصبح ينادي بالنزول إلى الشوارع للاحتجاج عليه.
آثار كارثية ومستقبل غامض

وفي مقابل ذلك يؤكد الخبراء أن نسبة النمو في البلد لن تتحسن في علاقة مباشرة بهذه الزيادات والإجراءات الاعتباطية التي لن تزيد المستهلك إلا انكماشا وبالتالي ستقلص عجلة الإنتاج وقد تفضي إلى غلق المؤسسات الاقتصادية وارتفاع البطالة كما لن تساعد في سداد الديون الخارجية وخدمة الدين المرتفعة التي لا تكون إلا بالعملة الصعبة والحال أن عجلة التصدير شبه متوقفة سواء للمواد غير المصنعة أو المواد المصنعة التي لا تتمتع فيها المؤسسات التونسية بقدرة تنافسية عالية ولا بقيمة مضافة معتبرة، ليصبح حلم النقطتين نمو مجرد وهم يباع لمن يشتري.
وعموما فإن توصيف الوضع الاقتصادي الذي سينشأ عن الخيارات الاقتصادية لحكومة الشاهد لن يختلف عن توصيف الوضع في أي بلد من العالم قام بتطبيق وصفات صندوق النقد الدولي خاصة في بلد ينخره الفساد وتنهشه اللوبيات.
حزمة الحلول الاقتصادية التي اختارها الشاهد للشعب التونسي من باب تجرع السم الذي لا بد منه ما كان لها أن تكون لو كان له رؤية اقتصادية أكثر استشرافا وأعمق بحثا واجتهادا في تثمين مواطن القوة للاقتصاد الوطني ولكن للأسف يبدو أن دائرة المشورة والقرار قد باتت منحصرة في فريق غير كفء من المستشارين الاقتصاديين الموجهين من قبل خبراء صندوق النقد الدولي، يضاف إليها تراكم المتدخلين في الملف الاقتصادي من وزارات ومؤسسات وهياكل ومجالس تتناسل بعضها من بعض بدون أدنى فائدة.
كان بالإمكان أفضل مما كان
ببساطة كان يتعين على الشاهد أن يسير في الاتجاه المعاكس تماما لما سار عليه لو كان يريد إصلاحا، وكان يجدر به تعزيز القدرة الشرائية للمواطن عبر التحكم في الأسعار وخفض الأداءات التي تعاقب الاستهلاك والتخفيف على المؤسسات التونسية الاقتصادية الجادة وتحفيزها لتطوير منتوجها ورفع تنافسيتها على المستوى الدولي. وبدل خلق انكماش اقتصادي مدمر لسوق الشغل ولمنظومة الضمان الاجتماعي كان بالإمكان خلق ديناميكية اقتصادية يتناغم فيها العرض والطلب بتحفيز ومراقبة من الدولة التي كان عليها القيام بمراجعة معمقة لوضع منشآتها العمومية المفلسة في مجملها والتي يتم تسييرها وفق منطق سياسي لا اقتصادي. وإنه من أيسر الأمور معالجة وضع المنشآت التونسية بما في ذلك المؤسسات المصادرة و تلك العاملة في محيط تنافسي من خلال إدارة حكيمة ومستقلة ومسؤولة واستنادا إلى عمليات التدقيق المستمر التي تقوم بها هياكل التدقيق الداخلي والرقابة الخارجية والتي يلقى بأهم توصياتها عرض الحائط.
وكان يتعين كذلك التحلي بمزيد من الجرأة في مواجهة الفساد الذي طال للأسف حتى حكومة الشاهد نفسها لأن البارونات الذين تم توقيفهم على ذمة ملفات الفساد والتهريب ليسوا إلا الشجرة التي تحجب الغابة وفي الغابة الكثير من الأمور التي يمكن معالجتها بالكثير من الحكمة وبتطوير المنظومة الرقابية وحوكمة التصرف وترشيد الاستهلاك وحسن توظيف الموارد وتركيز آليات التحفيز.
وفي الواقع فإن هنالك شبه إجماع على أن مواجهة الفساد دون حسابات أو عقد أو خلفيات من شأنها أن توفر سنويا نقطة في النمو بما يوازي خلق أكثر من 15 ألف موطن شغل مع تحقيق تحسين في سمعة البلاد الخارجية المتضررة منذ أن صنفنا شريكنا الأساسي الاتحاد الأوربي ملاذا ضريبيا وخطرا على اقتصاده.

الشاهد كان بإمكانه التركيز على الحلول السهلة المباشرة بدل البحث عن المسكنات، كان بالإمكان الاعتناء أكثر بالقطاع الفلاحي في بلد فلاحي بالأساس مثل تونس وتعزيز الطاقة الإنتاجية والتصديرية للمنتوج التونسي منقطع النظير لا فقط بالمقارنة مع المنتجات التقليدية بل وكذلك المنتوجات الغابية وذات الاستعمال الصيدلاني في وقت تشهد فيه أسعار المواد الفلاحية ومواد إنتاج الأدوية التهابا عبر العالم.
الشاهد كان بإمكانه إحداث ثورة في الملف المتعلق بإنتاج الملح أو الذهب الأبيض وفرض مراجعة جدية ووطنية وسيادية لكل الاتفاقات ذات الصلة حيث ارتفع الطلب العالمي والأوربي بداية سنة 2018 على الملح بشكل قياسي بسبب تراجع الإنتاج في عديد الدول نتيجة سوء الأحوال الجوية بينما صادراتنا وأسعارنا تراوح مكانها.
الشاهد كان بإمكانه اتخاذ إجراءات أكثر جرأة لتوظيف الأدمغة والطاقات الوطنية التي يبدو أن الهجرة الفعلية ونوايا مغادرة التراب الوطني فيها تجاوزت الـ 50% خاصة صلب الكوادر الحكومية والاختصاصات التي تشكو تونس فيها عجزا كالخبراء وأطباء الاختصاص واليد العاملة عالية الكفاءة وحتى رياضيو النخبة ، هذه الأدمغة التي يبدو أن المشكل الأساسي لديها لا يتعلق بمستوى التأجير الضحل بقدر ما يتعلق بحالة التهميش والإحباط التي أصابتها جراء قرارات يتخذها أشخاص متنفذون منعدمي الكفاءة في جميع مستويات القرار.
الشاهد كان بإمكانه تثمين المقدرات ونقاط القوة التي منها رمزية الثورة التونسية والحالة الديمقراطية الفريدة في الوطن العربي وإفريقيا وصورة الدولة التي نجحت في تحييد ظاهرة الإرهاب والبلد المنفتح على العالم لخلق طاقة جذب لرؤوس الأموال والسياح والإعلام الدولي وسياحة المؤتمرات وإعادة النظر في الموروث الأثري والتاريخي والتراثي وتوجيهه نحو العالمية وتحويله إلى علامات مسجلة عالية المردودية.
الشاهد كان بإمكانه الاستثمار في رأس المال البشري بطريقة أكثر براغماتية من خلال تعزيز مكانة البحث العلمي وربط المؤسسات البحثية بمؤسسات الإنتاج وتشجيع الابتكار وتسجيل البراءات والعمل على تحسين ترتيب الجامعات التونسية على المستوى الدولي حتى تصبح جاذبة للطلبة الأجانب وتتحول بدورها إلى قوة جذب للعملة الصعبة وللأدمغة.
ولكن
الشاهد المعزول عن محيطه في رئاسة الحكومة والمحاط بوزراء متحزبين أحزاب بعضهم ضد الحكومة أصلا، الشاهد غير المقنع في وسائل الإعلام المفتقر لأسلوب الحوار البناء المنغلق في بعض الجمل المجترة والشعارات الفضفاضة ، الشاهد المفتقر لقراره المرتهن في وجوده وشرعية ممارسته للحكم لقصر قرطاج لن يكون بمقدوره فعل شيء مما سلف ذكره أو غيره إلا إذا قرر هو نفسه أن يتحرر ويمارس صلاحياته بالجرأة اللازمة لتخليد نفسه كأحد كبار مصلحي هذه البلاد، أما إن اختار المضي في حلول العجائز فقد يجد نفسه في مواجهة ثورة الجياع في ذكرى أحداث ثورة الخبز، ولن تكون ميزانية 2018 أكثر من تكرار لميزانيات متواترة منذ الاستقلال حققت نموا ربما ولكنها لم تحقق تنمية، لنجد أنفسنا مرة أخرى وبعد 62 ميزانية للدولة التونسية المستقلة مجرد بلد متخلف.
بقلم : عبد المجيد المكي
0 commentaires :
إرسال تعليق