منظومة مكافحة الفساد في تونس:
بين مطرقة الإصلاح وسندان الدولة العميقة

بقلم : عبد المجيد المكي
الجزء الأول:
مكافحة الفساد .. الإرادة المفقودة
مكافحة الفساد .. الإرادة المفقودة
أصبح إرساء
منظومة وطنية للحوكمة ومكافحة الفساد والرشوة، باعتباره أحد استحقاقات الثورة
التونسية أولا وأحد مقتضيات التنمية ثانيا، معضلة بأتم معنى الكلمة، وذلك لا يعود
لاستعصاء تقديم تصورات وأفكار ومشاريع للغرض ولكن لغياب الإرادة السياسية أحيانا ولغياب
الجرأة و القدرة أحيانا أخرى على إرساء مثل هذه المنظومة في حال توفرت بعض الإرادة.
إن نظام الحكم المحمول على
تركيز المؤسسات القادرة مهنيا على القيام بهذه الخطوة يبدو اليوم واقفا مترددا بين
مطرقة الإصلاح، التي يفرضها الدستور وتقتضيها متطلبات التغيير السياسي والاجتماعي و
الاقتصادي، وبين سندان الدولة العميقة التي تدفع باتجاه إصلاحات صورية من باب ذر
الرماد في العيون، إصلاحات لا تمس جوهر منظومة الفساد ولا تتجرأ على نبش ملفات
الماضي بل هي تدفع باتجاه مصالحة تطوي الصفحة وقد تعيد الفاسدين أو جيلا جديدا
منهم إلى صدارة المشهد.
وفي الحقيقة فإن المسؤولية
السياسية والأخلاقية ، بل والقانونية، عن هذا الوضع تتحملها دون استثناء جميع
الحكومات التي تداولت على حكم البلاد التونسية ما بعد الثورة، كما تتحملها أحزاب
المعارضة والمجتمع المدني ومختلف المؤسسات ذات الصلة، بل ويتحملها المواطن التونسي
الذي قبل في لحظة زمنية عودة عقارب الساعة إلى الوراء مخيرا الأمن الزائف والاستقرار
الوهمي على مواصلة مشوار طويل من الإصلاحات الممهورة بدماء الشهداء.
وقد تبين جليا خلال بضع
سنوات أن كل الملفات الوطنية المعطلة بداية من ملف التشغيل وصولا إلى ملفات
التنمية وإصلاح الإدارة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وغيرها هي في الأصل
مرتبطة ارتباطا وثيقا بمعالجة ملفات الحوكمة ومكافحة الفساد، الذي يستنزف سنويا ما
يقارب نقطتين من مؤشرات التنمية بما يعادل 50 ألف موطن شغل إضافة إلى السمعة
السيئة للاقتصاد الوطني ومنظومة الحكم ، هذه الملفات التي يراد لها أن تبقى عالقة
وأن تكلف تونس تراجعا مستمرا في مؤشرات النزاهة وتقدما مستمرا في ترتيب الدول
الموبوءة بآفة الفساد.

الأيادي
المرتعشة وأزمة الدولة
كان شعار "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق" من أذكى شعارات الثورة التونسية حيث ربط واقعيا بين الفساد السياسي والاقتصادي وبين تدهور الوضع الاجتماعي للفئات المعطلة والمهمشة والمفقرة خاصة في الجهات الداخلية، ولذلك عمل النظام السابق في لحظات ترنحه على تدارك الوضع من خلال إرساء لجنة لتقصي الحقائق حول الفساد والرشوة برئاسة المرحوم عبد الفتاح عمر، كما حرص مؤسسو الجمهورية الثانية على إدراج منظومة مؤسساتية للحوكمة ومكافحة الفساد ضمن الدستور كشكل من القطيعة الابستيمولوجية والقانونية والأخلاقية مع العبث بالمال العام والاعتداء على مقومات الاقتصاد السليم (كحرية المبادرة، وحرية الصناعة والتجارة، وشفافية المنافسة والمساواة أمام الطلب العمومي، والمساواة أمام الضرائب والأعباء العامة، وغيرها)، كما تم إقرار المساءلة على انتهاكات الماضي بما في ذلك الانتهاكات ذات الصلة بملف الفساد كمرحلة في اتجاه كشف الحقيقة والمصالحة والتعويض عند الاقتضاء.
كان شعار "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق" من أذكى شعارات الثورة التونسية حيث ربط واقعيا بين الفساد السياسي والاقتصادي وبين تدهور الوضع الاجتماعي للفئات المعطلة والمهمشة والمفقرة خاصة في الجهات الداخلية، ولذلك عمل النظام السابق في لحظات ترنحه على تدارك الوضع من خلال إرساء لجنة لتقصي الحقائق حول الفساد والرشوة برئاسة المرحوم عبد الفتاح عمر، كما حرص مؤسسو الجمهورية الثانية على إدراج منظومة مؤسساتية للحوكمة ومكافحة الفساد ضمن الدستور كشكل من القطيعة الابستيمولوجية والقانونية والأخلاقية مع العبث بالمال العام والاعتداء على مقومات الاقتصاد السليم (كحرية المبادرة، وحرية الصناعة والتجارة، وشفافية المنافسة والمساواة أمام الطلب العمومي، والمساواة أمام الضرائب والأعباء العامة، وغيرها)، كما تم إقرار المساءلة على انتهاكات الماضي بما في ذلك الانتهاكات ذات الصلة بملف الفساد كمرحلة في اتجاه كشف الحقيقة والمصالحة والتعويض عند الاقتضاء.
غير
أنه رغم هذا الجهد التأسيسي المدفوع بقوى الثورة وزخمها فشلت انتخابات أكتوبر 2011
في تصعيد نخبة سياسية قادرة على وضع قطار الحوكمة ومكافحة الفساد على سكته
الطبيعية ووجدت حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة نفسها في وضع سياسي صعب جدا حيث
تم تحميلها مسؤولية إنجاز استحقاقات الثورة وإدخال الإصلاحات الثورية العميقة
والقيام بأعمال المحاسبة والمساءلة وما يستتبعها من التصرف بالأموال المصادرة
ومتابعة الأموال المهربة وتنفيذ بطاقات الجلب القضائي للفاسدين الهاربين وتصفية
تركة التجمع المنحل والتصرف في ملفات العفو العام وتشغيل حوالي 400 ألف معطل عن
العمل (في ذلك التاريخ) بالإضافة إلى إصلاح جهاز الإدارة الذي هو قاطرة مشروع
الإصلاح كله والحال أن الترويكا لم تكن قادرة على ذلك بسبب نقص الخبرة من ناحية
وعقدة الضحية تجاه الجلاد من ناحية أخرى.
كما
أنه في مقابل المسؤولية التاريخية للأحزاب السياسية التي حسبت نفسها على الثورة
اكتشف التونسيون تدريجيا أن تلك الأحزاب التي تصدرت مشهد المعارضة للمنظومة
النوفمبرية والتي طالما عانت الإقصاء السياسي والاضطهاد الأمني لم تكن أكثر من
أحزاب محافظة إصلاحية لا تحمل مشروعا متكاملا وواقعيا يمكنه مجاراة الزخم الثوري،
ولذلك استنزفت تلك الأحزاب رصيد الثقة الذي تتمتع به في تدجين الرأي العام للقبول
بالتعايش مع منظومات الدولة العميقة بما في ذلك الإدارة ورجال الأعمال المشبوهين
وحتى رجال النظام السابق بأسمائهم وصفاتهم.
ولأنها
اختارت نهج الإصلاح الملائم لعدم تمرسها بالحكم وتهيبها للإدارة العميقة ومهادنتها
للمنظومة السائدة التي أفضت إلى دخولها بيت الطاعة السياسية ، إضافة إلى الكم
الكبير من الأخطاء الناجمة عن عدم دراية بالحكم والتصرف العمومي، فقد اختارت
حكومات الترويكا بدرجات متفاوتة تأجيل النظر في ملفات الفساد الكبرى كما أجلت
الإصلاحات إلى ما بعد سن الدستور، بل إن بعض رموزها اعتبر أن مجرد التنصيص على
الإصلاحات هو في حد ذاته إنجاز ثوري حتى وإن بقي حبيس الحروف التي تعبر عنه. أما
الملفات الضئيلة التي وجدت طريقها إلى القضاء فقد اختار القضاء تسويفها بما أتاح
إطلاق سراح الكثير من المسؤولين السياسيين والإداريين، إما بسبب تجاوز المدة
القانونية للإيقاف أو لعدم كفاية الأدلة أو لفرار المتهمين والاكتفاء بأحكام
غيابية قابلة للطعن في كل وقت ، كما أن جل ملفات الإدانة قد أعدتها جهات غير مؤهلة
قانونيا أو مهنيا لذلك.
كما
قام اتحاد الشغل بتحريك قواعده الفوضوية في إطار ما سماه تحريك ماكينة الاتحاد
لفرض عدم محاسبة قياداته المتواطئة في الفساد مع نظام بن علي طيلة أكثر من عشرين
سنة، كان آخرها استلام رشوة مالية من زعيمه عبد السلام جراد من بن علي شخصيا
لتأطير تحركات الشارع والمساعدة على إخماد الثورة الصاعدة.
ولئن
اعتقدت حكومة الترويكا أن بإمكانها التحليق بمحرك فاسد دون الحاجة للقيام بالصيانة
اللازمة فقد أثبتت الوقائع أن ما تصورته محركا من أحدث طراز لم يكن أكثر من آلة
متهتكة من طراز قديم، ولم ينفع الترويكا الضغط القوي على دواسات السرعة لتحقق
أهدافها بل عادت بها العربة إلى الوراء عند أول مرتفع ثم هوت بها عند أول منعطف.
حكومة
الترويكا التي وصفت بالأيادي المرتعشة لم تكن قادرة على وضع سياسات حقيقية لمكافحة
الفساد والرشوة لأنها كانت تتمتع بنصف شرعية حيث انتخبت أصلا لكتابة الدستور وفرعا
لتسيير الشأن العام وهي لم تكن لذلك معنية بالإصلاح، بل إن الكثير من قياداتها
ومسؤوليها وجدوا أنفسهم في نهاية المطاف مورطين في موجة جديدة من ملفات الفساد
"ما بعد الثورة" (قضية رفيق عبد السلام وزير الخارجية الأسبق نموذجا).
ولئن
حاولت حكومة الترويكا من خلال برنامجها الانتخابي ثم الحكومي ومن خلال تركيبتها
الحكومية الأولى التي ضمت وزيرا للإصلاح الإداري ووزيرا للحوكمة ومكافحة الفساد أن
تقدم رسالة طمأنة فيما يتعلق بالتزامها بمقاومة مظاهر الاستهتار بالمال العام إلا
أنها أخفقت عمليا لينتهي الأمر باستقالة محمد عبو وزير الإصلاح الإداري بسبب
حرمانه من أسباب النجاح ومنها وضع هيئة الرقابة العامة للمصالح العمومية برئاسة
الحكومة تحت إشرافه، كما أخفقت وزارة الحوكمة ومكافحة الفساد في الخروج من تخمة
الأطروحات النظرية التي بقيت حبيسة الصالونات وغير قابلة للتنزيل على الميدان.
الأدهى
من ذلك أن الكثير من القرارات التي اتخذتها الأيادي المرتعشة تحت الضغط الداخلي من
الإدارة العميقة والضغط الخارجي من اتحاد الشغل والمعارضة السياسية، والتي ظنت
أنها إصلاحات جوهرية في منظومة الرقابة، لم تكن في محلها بل إن ضررها كان أكثر من
نفعها وأفضى إلى تقليص دائرة المسؤولية عن إهدار المال العام ومن هذه القرارات
فوضى الأنظمة الأساسية بالقطاع العمومي والخضوع إلى تقييمات المنظمات الدولية
وإملاءاتها والتي أدت بدورها إلى فرض إصلاحات لم تراع عدم جهوزية واقع الإدارة من
ناحية وغياب الذهنية العامة لتقبلها من ناحية أخرى (على غرار اعتماد التصرف في
الميزانية حسب الأهداف ).
وفي
الحقيقة فإن الروح العامة للسنوات الأولى للثورة تميزت بتقبل منظومة الفساد
للمساءلة دون مقاومة تذكر مع البحث عن مجالات للتسوية وعليه وجدت أطروحات لطي
ملفات الفساد بعيدا عن مناخ التشفي والانتقام (منها اقتراح الأستاذ قيس سعيد بدعوة
رجال الأعمال المفسدين إلى التكفير عن إجرامهم من خلال الاستثمار بالجهات الداخلية
) إلا أن مرور الوقت دون محاسبة أو حتى تحييد لأدوات الفساد عن جهاز الدولة وإبرام
بعض وزراء الترويكا وأحزابها صفقات تسوية في الظلام قد أفضى إلى استرداد منظومة
الفساد لأنفاسها وأهّلها لفرض شروطها وتسوية الملف على طريقتها الخاصة.
كما
أن الأحزاب المكونة للترويكا لم تكن بدورها متوافقة حول الموقف من منظومة الفساد
وبالتالي حول الموقف من منظومة مكافحة الفساد، بل عمد رئيس الجمهورية المنصف
المرزوقي إلى أدوات غير قضائية لتسوية بعض الملفات على غرار نشر الكتاب الأسود
للصحفيين والإعلاميين الفاسدين الذين تلقوا تمويلات ضخمة مباشرة أو عبر وكالة
الاتصال الخارجي، الذراع الإعلامي الذي احترف تلميع صورة النظام في الخارج
واستئجار القنوات والأقلام لهذا الغرض عن طريق رشاوى هامة. وكان من الممكن أن
يتمادى المرزوقي في ذلك لينشر كتبا سوداء عن القضاة والمحامين وغيرهم من الأسلاك
التي تورطت بشكل أو بآخر مع النظام وكانت تتلقى أجورها عن ذلك من الصندوق الأسود
للقصر، غير أن الهجمة المضادة لمنظومة الفساد الإعلامي بالإضافة إلى أخطاء في
إدراج أقلام نظيفة في القائمة واستبعاد أسماء معروفة بفسادها وسوء استغلال أرشيف
الرئاسة كلها أوقفت هذا المسار الذي لم يكن كله خاطئا خاصة إذا ما قورن ببعض
الملفات التي عولجت ضمن المسار القضائي على طريقة نور الدين البحيري وزير العدل الأسبق
والتي أفضت إلى تجميد القضاة الفاسدين دون محاسبتهم بملفاتهم الموجودة بين يدي
تفقدية وزارة العدل لينقلب السحر على الساحر عندما قام القضاة بهجومهم المضاد
للمطالبة بإرجاعهم باعتبارهم تعرضوا لمظلمة وتصفية حسابات خارج منظومة العدالة وبالرجوع
إلى مواقع عملهم وكأن شيئا لم يكن.
منظومة
الفساد استفادت كذلك من ارتخاء قبضة الدولة وتهتُّك مؤسساتها بما في ذلك المؤسسات
الرقابية والقضائية والأمنية وصَعدت من جديد لتضع نفسها موضع الحَكَم في الأزمة
السياسية معززة بحدثين وطنيين أليمين هما اغتيال كل من شكري بلعيد ومحمد البراهمي ولتطوى
بذلك صفحة حكم الأيادي المرتعشة بسقوط حكومة علي العريض.
كان
من الواضح أن حكومة المهدي جمعة التي توافقت عليها القوى السياسية المتنازعة في
البلاد لا تحمل مكافحة الفساد ضمن حقيبة أولوياتها وهو ما تجلى لاحقا في مهادنة
منظومة الفساد والتركيز على ملفات الإرهاب والوضع الاقتصادي وإعداد الانتخابات.
كما تبين لاحقا أن هذه الحكومة لم تحمل مشروعا لمكافحة الفساد بل اكتفت بإدراج
كتابة دولة للوظيفة العمومية والحوكمة لم تكن تتصرف عمليا في ملف الوظيفة العمومية
كما اكتفت بالتركيز على تحقيق بعض المكاسب السريعة من خلال تنفيذ برامج سبق أن
شرعت فيها الحكومة السابقة على غرار مدونة سلوك العون العمومي ومقصلة الإجراءات
الإدارية قبل أن تنهي مشوارها بإلغاء عقد مؤتمر منظمة الشفافية الدولية في تونس من
باب ترشيد النفقات وتدخل بذلك في خلاف مع الهيئة الوقتية لمكافحة الفساد التي
اعتبرت أن عقد هذا المؤتمر الدولي الهام في تونس يعد كسبا رمزيا في الحرب ضد
الفساد.
حكومة
جمعة نفسها لم تكن بعيدة عن دائرة الاتهامات التي وصلت حد المساءلة البرلمانية عن
تجديد عقود النفط والملح واستغلال المناجم في غياب كامل للشفافية وعن إبرام عقود
ديون ذات فوائض عالية في ظروف مشبوهة.
تلك الحكومة كانت خاضعة بشكل ملحوظ لتأثير اللوبيات وخاصة منها ذات الصلة بدوائر الأعمال والشركات متعددة الجنسيات ذات المصالح الاقتصادية في تونس، وخاصة منها الشركات العاملة في مجال الطاقة والمناجم، كما خضعت لتأثير سفارات البلدان المرتبطة بتلك الشركات ، ولعله لهذا السبب كان رد الفعل على الحملة الوطنية حول الشفافية في مجالات الطاقة والمناجم (وينو البترول) قويا وعنيفا في بعض الأحيان رغم أن تونس قد عرفت مثل هذه الحملات منذ سبعينات القرن الماضي.
تلك الحكومة كانت خاضعة بشكل ملحوظ لتأثير اللوبيات وخاصة منها ذات الصلة بدوائر الأعمال والشركات متعددة الجنسيات ذات المصالح الاقتصادية في تونس، وخاصة منها الشركات العاملة في مجال الطاقة والمناجم، كما خضعت لتأثير سفارات البلدان المرتبطة بتلك الشركات ، ولعله لهذا السبب كان رد الفعل على الحملة الوطنية حول الشفافية في مجالات الطاقة والمناجم (وينو البترول) قويا وعنيفا في بعض الأحيان رغم أن تونس قد عرفت مثل هذه الحملات منذ سبعينات القرن الماضي.
أما
إصلاح منظومة مكافحة الفساد فقد تمتع بعطلة طيلة سنة من حكم التكنوقراط قبل أن
يعود إلى الواجهة مع البرامج الانتخابية للأحزاب السياسية في الانتخابات الرئاسية
والتشريعية لسنة 2014 حين صعد إلى الواجهة شعار هيبة الدولة.
هيبة الدولة وشرعية الانتخابات
كان
لإسقاط حكومة الترويكا ضريبة كبيرة فيما يتعلق بتسوية ملفات الفساد من قبل الحكم
البديل حيث تطلب إسقاط النهضة ودفعها إلى المركز الثاني في انتخابات سنة 2014
تحالفا بين القوى المتضادة سياسيا وعقد صفقات مع بعض أركان المنظومة القديمة
والمتورطين معها في ملفات فساد وسوء تصرف لكسب دعمها السياسي والمالي مقابل وعود
بتسوية الملفات خارج نطاق العدالة الانتقالية، وهو ما تجلى خصوصا في القانون
المثير للجدل حول المصالحة الوطنية وكاد يؤدي إلى أزمة سياسية وجدت تداعياتها في
الشارع الذي لم يستسغ قبل ذلك التراجع عما عرف بقانون العزل السياسي الذي يحرم
المتورطين في منظومة الفساد من المشاركة في الحياة السياسية لمدة معينة كشكل من
العقاب السياسي لهم وحماية للعملية السياسية الهشة في تونس ما بعد الثورة من عقلية
الفساد التي كانت تدير دفة الحكم زمن المخلوع.
لقد
كان شعار الحكام الجدد لتونس ما بعد انتخابات 2014 هو استعادة هيبة الدولة بما
تعنيه من منع الاستهتار بالمال العام والتصدي للممارسات المرتبطة باستغلال النفوذ
والرشوة والمحسوبية وعدم احترام الواجبات تجاه الدولة عبر التهرب الضريبي وتعطيل
حرية العمل ووقف دورة الإنتاج .
ولكن
بين الشعار الانتخابي والممارسة وجدت هوة كبيرة حيث لم يعد بالإمكان مواجهة تغلغل
منظومة الفساد في السياسة والاقتصاد الوطنيين ما حدا مثلا بوزير التجارة محسن حسن إلى
الدعوة للتفاوض مع كبار المهربين لمعالجة ملف التهريب الذي استنزف البلاد اقتصاديا
في مرحلة أولى ثم أمنيا في مرحلة ثانية بعد أن ارتبط ملف التهريب بملف الإرهاب
المتصاعد على الحدود سواء منها الشرقية أو الغربية.
وإجمالا
فإن الإرادة السياسية الضرورية لمكافحة الفساد قد بدت مع حكومة هيبة الدولة أكثر
ضعفا بالتزامن مع تعطل عمل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد واستعادة الاتحاد
التونسي للصناعة والتجارة الممثل لشريحة كبيرة من رجال الأعمال المورطين زمام
المبادرة الاقتصادية والسياسية في إطار ما عرف بالحوار الوطني المدعوم دوليا
بجائزة نوبل للسلام.
حكومة
الحبيب الصيد التي لم تولَ أهمية لملف الحوكمة ومحاربة الفساد وجدت نفسها، تحت ضغط
قضايا الفساد وتنديدات نواب الكتل البرلمانية بما فيها تلك المساندة للحكومة،
مجبرة على التفكير في دعم منظومة مكافحة الفساد ولو صوريا لينبثق عن ذلك وزارة
للوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد لا تبدو إلى حد الآن أكثر من هيكل يراد
به تخفيف العبء الإداري عن رئيس الحكومة، حتى يتفرغ للقضايا السياسية تحت ضغط
رئاسة الجمهورية الساعية لتوسيع صلاحياتها التنفيذية على حسابه، في انتظار أن يقدم
الوزير المعني خطته القطاعية والتي لن تكون حسب مؤشراتها الأولية، أكثر من إعادة
ترتيب للأوراق في وجود منظومة فساد مهيكلة متنفذة وفي غياب أي توجه لتقديم دعم
مادي حقيقي لإعادة هيكلة منظومة مكافحة الفساد اعتبارا لسياسة التقشف الحكومية
والتي من بوادرها رفض وزارة المالية تمويل خطة تفعيل الهيئة الدستورية للحوكمة
ومكافحة الفساد.
كما
أن المحاصصة السياسية في حكومة الصيد لم تخل من اتهامات متبادلة بالفساد شملت
رموزا وقيادات من النظام الجديد أهمها ما تعلق بقضية بنك لازار وبوثائق بنما
وبصفقات تكنولوجيا المعلومات وباستجلاب السياح الشيعة وغيرها مما استفاض الإعلام
الاستقصائي في الحديث عنه ومما لمح له الرئيس الجديد للهيئة العليا لمكافحة الفساد
الأستاذ شوقي الطبيب من أن هيئته تمتلك ملفات فساد تتعلق بمسؤولين مباشرين في
الدولة.
وبالمحصّلة فإن الإرادة السياسية الضرورية لتركيز منظومة قوية للحوكمة
ومكافحة الفساد والرشوة لم تتوفر بالشكل المطلوب حيث حملت نظرة إصلاحيات لا ثورية
، ولكن حتى النظرة الإصلاحية بقيت حبيسة القوالب الجاهزة والتفكير النمطي وتأثير
اللوبيات مع الإفراط في التفكير في الكلفة دون احتساب المردودية، ولذلك فإنه لم
يكن غريبا أن تتراجع مكاسب منظومة مكافحة الفساد حتى عما كانت تتمتع به من النجاعة
والامتيازات قبل الثورة.
أما عن تركيز الهيئات الدستورية
ذات الصلة فحدث ولا حرج، إذ بعد سنتين من صدور الدستور ما تزال جل الهيئات تبحث عن
ذاتها وعن الحد الأدنى من التمويل الضروري لحسن سيرها رغم عقلية التبذير التي بدت
من النفقات الأولية لبعض من هذه الهيئات.
إلى اللقاء في الحلقة الثانية
Abdelmajid.mekki2@gmail.com
0 commentaires :
إرسال تعليق