اللّوالب القلبية منتهية الصلاحية والبنج الفاسد: الوجه الآخر للحقيقة



 بقلم: عبد المجيد المكيّ




في انتظار أن يدخل قانون النفاذ إلى المعلومة حيز التطبيق تواصل منظومة الصّحة العمومية دفع ثمن غياب المتابعة والنشر لتقارير الرقابة التي طالما تعرضت لإخلالات التصرف في المواد الطبية منتهية الصلاحية بمختلف أنواعها واستعمالاتها.
واليوم وقد بات الجميع يبحث عن المسؤول في قضية  اللوالب القلبية ووسط تبادل الاتهامات التي طغى عليها التوظيف السياسي والانتماء القطاعي فإنه يتعين توضيح جملة من المسائل لنفهم أن المسؤولية مشتركة وأن لكل منا دوره في منع تكرار ما حصل.
الجانب القانوني للمسؤولية
من الناحية القانونية، فإن المريض هو تحت مسؤولية المستشفى طيلة مدة إقامته للعلاج، كما أن الطبيب المشرف على العلاج ملزم ببذل كامل العناية وباحترام كافة المعايير العلمية والأعراف الطبية والأخلاقية لتحقيق  الشفاء دون أن يكون ملزما في الغالب بنتيجة لأن الشفاء هو من المولى عز وجل مع هامش متاح للخطأ يقدره القضاء وأهل المهنة.
وبالتالي فالطبيب الذي يخون أمانة مريضه فيستعمله حقلا للتجارب السريرية دون موافقته أو يزرع في جسمه دواء أو مادة قاتلة أو دما فاسدا أو جسما منتهي الصلاحية مع معرفته بوجود احتمال لتعكر صحته أو موته هو مذنب قانونيا وأخلاقيا دون شك. ولكن حتى بوجود الموافقة فمن حقنا أن نتساءل عن قيمة تاريخ نهاية الصلاحية إن كان هنالك من أطبائنا من لا يعتد به، علما وأن المسؤولية القانونية للمصنّع تنتهي بنهاية تاريخ الصلاحية لتبدأ المسؤولية الكاملة للطبيب وللصيدلي المشرف على الخزن، كما أن موافقة المريض مسلوب الإرادة والخاضع لمختلف المؤثرات يمكن ألا يعتد بها لأن رضاه في هذه الحالة قد يكون معيبا.
استعمال مواد منتهية الصلاحية: ما الدافع؟
بصورة عامة يمكن القول إن التجاوزات في القطاع العمومي للصحة مردها الاستهتار بالمال العام سواء بالإهمال أو بتحقيق منفعة للحساب الخاص على حساب المؤسسة الصحية، أما التجاوزات في القطاع الخاص فمردها الإفراط في التقشف والاستغلال لتحقيق الربح الأقصى عبر الحد من الكلفة والرفع من سعر البيع ولكن النتيجة في الحالتين واحدة والضحية هو عادة المريض الذي لا سند له.
وإن كنا سمعنا في الأيام الأخيرة مبررات من بعض الأطراف في الاتجاه المعاكس لهذه القاعدة فإنه يصعب حقيقة أن نتقبلها، كأن يجازف طبيب القطاع العام بصحة المريض من أجل الحفاظ على المال العام.
 ولكن في الحقيقة أكثر ما قد يدفع الأطباء للمجازفة هو ضغط العمل، ذلك أنه نتيجة إخفاق سياسة التزود في علاقتها بالبرنامج الدوري للعمليات الجراحية وأمام الحالة الحرجة لبعض المرضى أو لصعوبة التصرف في المواعيد الطبية بسبب الاكتظاظ الشديد الناجم عن تمركز طب الاختصاص في المدن الكبرى، فإن الطبيب قد يستسهل مثل هذه الحلول التي قد يقدّر أنها لا تشكل أي خطر أو أنه أمام الحالة الحرجة للمريض فإن نسبة من المجازفة تكون مقبولة .
أصل الداء: غياب الحوكمة
بين سوء النية وحسن النية تبقى سياسة التزود والخزن بمستشفياتنا العمومية هي المتهم الرئيسي، وتطال التهمة أيضا منظومة الشراء العمومي التي لا تتناسب على الإطلاق مع خصوصية المشتريات الطبية من أدوية ومعدات ومكملات ومزدرعات وغاز طبي وغيرها لا من حيث خصوصية الاستعمال ولا من حيث سرعة إجراءات الاقتناء.
ولا يخفى أن هنالك مغالبة أزلية بين المتصرفين الإداريين والصيادلة وبين الإطار الطبي للمستشفيات، خاصة عندما يتدخل الصيدلي في برنامج العمليات الجراحية للطبيب أو يتدخل الطبيب في تصرف الصيدلي، ففي حين يصر الطرف الأول على احترام مقتضيات القانون يصر الطرف الثاني على أن "الشّكليات الإدارية" تبقى ثانوية أمام مصلحة المريض وحياته وعليه ترتكب جميع المخالفات، وتسقط بذلك كل مبادئ الشراء العمومي من شفافية ومساواة وتنافس بالضربة القاضية أمام "مصلحة المريض".
ومن جهتها، فإن التراتيب المنظمة للصفقات العمومية لا تأخذ خصوصيات الشراء للمواد ذات الاستعمال الطبي في الاعتبار وكان يتعين إدراج أحكام خصوصية تتيح الربط بين الجودة والكلفة وسرعة التزود مع أخذ الضمانات والاحتياطات اللازمة لذلك.
وللأسف فإن عدة مستشفيات تعمد إلى التوقي من مخاطر نفاذ المخزون عبر الإفراط في التزود وتكون النتيجة تراكم المقتنيات الطبية  في المخازن، وقد تتجاوزها الأحداث بظهور منتجات أكثر تطورا فتصبح عبئا على المخزون وعائقا أمام التصرف في فضاءات الخزن وعرضة للسرقة والنهب والاستعمال غير المشروع، خاصة وأن أعمال الجرد في شأنها عادة ما تتضمن نقائص يكرسها غياب المنظومات المعلوماتية للمتابعة.
هل يعني هذا أنه لا يوجد فساد؟
بالقطع لا، فكما أسلفنا فإن سوء التحكم في خزن هذه المواد الثمينة أوالخطيرة وغياب الجرد الدوري يجعلها مطمعا لضعاف النفوس وباباً للفساد والسمسرة بالأرواح، ولكن أيضا هنالك عوامل أخرى كثيرة محفزة على الفساد في هذا الملف ومنها خاصة عيادات النشاط الخاص التكميلي الذي انحرف عن هدفه الرئيسي الذي هو تحفيز الأطباء للعمل بالقطاع العمومي وتحول إلى مصدر لكل التجاوزات، وكذلك عدم وضوح الفصل بين انتماء بعض الأطباء الذين يعملون في المستشفيات العمومية وفي المصحات والعيادات الخاصة في ذات الوقت، حيث أن هذه المنافذ المتشابكة والمحكومة بالمصلحة والربح المادي هي ما يجعلنا نتساءل: إذا كان الطبيب قد زرع مواد منتهية الصلاحية فأين ذهبت المواد الصالحة؟
وبالتوازي مع ذلك علينا ألا ننسى الدور الخطير الذي يلعبه بعض المصنّعين وبعض المخابر الوطنية والعالمية وكبار الوسطاء من تجار الأدوية والمواد والمعدات الطبية في الضغط على وزارة الصحة ومؤسساتها وأعوانها ولجانها المختلفة بالترغيب وبالتحيل للحصول على صفقاتها المغرية ولترويج مواد ذات صلاحية محدودة أو مصنعة في ظروف غير آمنة أو من مصادر مجهولة الجودة بهدف تحقيق الربح الأقصى، في مقابل ضعف الصناعات الوطنية وتعدد مشاكلها .
من المسؤول إذن؟
زيادة إلى المسؤولية المباشرة للطبيب (مسؤولية مدنية أو جزائية) والتي يحددها القضاء دون غيره فإن هنالك مسؤولية مفترضة في العديد من الأطراف الأخرى ففي مقابل المجالات المتاحة للفساد نجد ضعفا في منظومات المراقبة على عدة مستويات ومن ذلك مسؤولية الصندوق الوطني للتأمين على المرض (الكنام) باعتباره الطرف الذي يتحمل تكاليف العديد من العمليات الجراحية كالعمليات على القلب سواء أجريت العمليات في المستشفى أو في المصحات الخاصة، الكنام لا يحرص للأسف على أن تتم العمليات التي يدفع ثمنها من أموال المضمونين الاجتماعيين في أحسن الظروف من خلال الرقابة على نوعية المزدرعات الطبية المستعملة وصلاحيتها في تاريخ زرعها رغم علمه بأنه يستحيل لاحقا معرفة ما إذا كان الجسم المزروع صالحا أم لا في تاريخ استعماله، بل حتى المغلفات الخارجية والتسجيلات والرموز التجارية المسلمة للصيدلية بعد الاستعمال لا تثبت في شيء حقيقة ما تم زرعه في المريض.
الكنام مسؤول قانونيا وواقعيا لأنه خبير وله الوسائل والإمكانيات وكامل الصفة القانونية للمتابعة والمراقبة وهو الوكيل القانوني للمضمون الاجتماعي في هذه الحالة، ولكنه يتخلى عن هذا الدور لتتحول العلاقة إلى علاقة مباشرة غير متكافئة بين مريض لا دراية له ولا إمكانيات وبين رأس المال الجشع المتمثل في بعض مصحات القطاع الخاص. بل الأسوأ أن المصحات غالبا لا تأخذ على عاتقها التعكرات وحالات العدوى اللاحقة للعملية الجراحية بل تحمّل كلفتها على المال العام لتكتفي المصحات بجني الأرباح في غياب منظمات الدفاع عن المستهلك المسؤولة عن المطالبة بتعويض الضرر ومنع تكراره. وهنا نتساءل اقتباسا من شاعرنا الكبير محمود درويش:
لماذا تركت "المريض" وحيدا؟
أما وزارة الصحة فمسؤوليتها مفترضة باعتبارها سلطة الإشراف ولذلك عليها أن تدرك أنها المسؤول الأول عن جودة خدمات القطاع العمومي للصحة وسلامته، وأنها أيضا مسؤولة عن القطاع الخاص وأن دورها فيه يتجاوز الترخيص والتدشين وتلقي الشكاوى بل يشمل مراقبة كافة جوانب التصرف وأن تحفيز الاستثمار في الصحة لا يتنافى مع كون الصحة العامة من ركائز النظام العام وأنها ملزمة بالتدخل عند كل تهديد لهذا النظام.

وخلاصة القول إن الفساد في قطاع الصحة موجود حتما ووارد جدا وقد لا تكفي مواثيق الشرف وأخلاقيات المهنة والتزامات عدم تضارب المصالح لمنع استشراء الفساد الذي يبقى كالهواء، كلنا ندرك وجوده ولكن لا نراه بسبب ضعف الأدلة عليه ولكننا نصطدم به أحيانا عندما تحل الكارثة ولذلك فالأنسب هو البحث عن سبل قطع دابره بالتنظيم وحسن الإدارة وعدم تداخل المهام بين الأجهزة وتوضيح المسؤوليات واعتماد أدلة الإجراءات وترسيخ المساءلة الجادة بعيدا عن التجاذبات وهذا لا يتطلب أكثر من توفر إرادة سياسية وثقافة مجتمعية هي ما تزال غائبة.

للتواصل   abdelmajidmekki2@gmail.com
نشر المقال بجريدة الصباح بتاريخ 14 أوت 2016

شارك الموضوع عبر جوجل+

عن Unknown

المنظمة التونسية للدراسات الاستراتيجية، هي جمعية تطوعية ذات صبغة علمية بحثية تنشط في مجال البحوث والدراسات الاستراتيجية . تهدف المنظمة التونسية للدراسات الاستراتيجية إلى : إجراء الأبحاث والدراسات العلمية والتطبيقية في مجالات التخطيط الاستراتيجي توفير فضاء فكري ملائم لاستيعاب الأفكار والدراسات في قضايا التنمية ووضعها على ذمة صناع القرار. المساعدة على تأطير أعمال البحث الاستراتيجي والأكاديمي والعمل على إنجاحها وتنزيل خلاصاتها في الواقع. .المساعدة على نشر ثقافة التخطيط الاستراتيجي.
    تعليق عبر جوجل+
    تعليق عبر فيسبوك

0 commentaires :

إرسال تعليق