بعد كلمة الحبيب الصيد حول الأوضاع العامة بالبلاد أي رؤية استراتيجية للعمل الحكومي التونسي؟

حكومة الصيد: الحاجة إلى رؤية استراتيجية لمستقبل تونس


لم يخل خطاب رئيس الحكومة التونسية السيد الحبيب الصيد الموجه إلى الشعب التونسي بتاريخ  16 مارس 2015  من نبرة تشاؤم كبير تجاه تعقّد الوضع العام بالبلاد خاصة من الناحية الاقتصادية  بدرجة أولى، وبدرجة ثانية من الناحية الأمنية التي اعتبرها تحت السيطرة، وهو ما ثبت خلافه تماما بعد يومين فقط حينما استهدف الإرهاب أحد المواقع الرمزية للدولة ضم مقر مجلس النواب ومتحف باردو والمدرسة الحربية لتصل رسالة مفادها أن الاقتصاد القائم على السياحة بالأساس قد ينهار خلال موسم سنة 2015 وأن الجهاز الأمني ما يزال أمامه الكثير من العمل ليتفادى ضربات بهذا العمق  وأن السلطة السياسية التي تنشأ من البرلمان في النظام التونسي الجديد هي في الحقيقة على مرمى رصاصة.
هذا الخطاب المكتوب خلال شهرين من تولي الحكومة والذي اعتبر مصارحة للشعب بحقيقة الأوضاع ترك انطباعا غير مريح لدى الرأي العام عموما واعتبر تكرارا لما جاء على ألسنة رؤساء الحكومات الست السابقين مما يؤشر على أننا ما نزال في نقطة الانطلاق رغم السنوات الأربع التي مرت على الثورة التونسية والتي كان المؤمل منها أن ننطلق إلى فضاءات أرحب.
إلا أن الأسوأ في الخطاب ليس أرقامه المفزعة عن تدهور الاقتصاد والحاجة إلى إجراءات فورية قاسية، وليس إدراك الحكومة لجسامة مهمتها ، وهي التي بدأت تستفيق من نشوة التنصيب بعد السباق المرير على تقلد المناصب الوزارية ، وليس اكتشاف حقيقة أن حكومة التكنوقراط التي تولت زمام الأمور لمدة سنة في ظل توافق وطني وشبه استقرار اجتماعي وأريحية عامة قد فشلت فشلا ذريعا في وقف النزيف العام وتقهقر الاقتصاد وهي الحكومة التي يفترض أنها تشكلت من نخب البلد في مختلف مجالات التخصص والتي بات يتعين مساءلتها عن تراجع الاستثمار في مدتها بـ 21 بالمئة وبوصول عجز الميزانية إلى 7400 مليون دينار وعجز المؤسسات العمومية إلى 3500 مليون دينار وعجز الصناديق الاجتماعية إلى 1100 مليون دينار إضافة إلى التضخم الكبير وفق الأرقام التي وردت في بيان رئيس الحكومة، فضلا عن استنفاذ قدرة البلد على التداين والتي عبر عنها السيد الحبيب الصيد لاحقا في جلسة المساءلة البرلمانية بتاريخ 3 أفريل  2015 بأنه قد لا تذهب كل موارد الدين إلى الاستثمار بمعنى أننا وصلنا إلى وضع قد نضطر معه لتوزيع بعض موارد الدين  في شكل أجور، وهو السيناريو الأسوأ المنذر بالخطر والذي يتهدد مستقبل الأجيال المقبلة ويعتدي على حقوقها.
الأسوأ في الخطاب حقيقة هو ما وشى به من غياب رؤية استراتيجية لمستقبل البلد وبالتالي غياب خطط وحلول بديلة على المدى القريب والمتوسط لتلافي الكارثة، وغياب خطط للتصرف في الأزمات، والاكتفاء بإجراءات عاجلة، لا تجديد فيها، لمعالجة المشاكل حالة بحالة، حيث تشمل هذه الإجراءات المصرح بها المشاريع المعطلة أصلا منذ سنة 2012 على غرار الطرق السيارة وغاز الجنوب والماء الصالح للشراب أي التي تمس شرايين البلاد، وكذلك المشاريع المرسمة تحت ضغط الرأي العام والمجتمع المدني والتي تفتقر في مجملها إلى دراسات جدوى حقيقية وإلى دراسات بيئية واقعية.
لقد كان أول ما تكشّف لنا بعد الثورة هو فشل المنوال التنموي السابق في جسر التفاوت في التنمية بين الجهات والفئات والقطاعات وعجزه عن استيعاب مطالب الشغل، بما في ذلك تشغيل حاملي الشهادات العليا الذين بلغت نسبة البطالة في صفوفهم 31 بالمئة كواحدة من أعلى النسب في العالم ، وتكريسه لسياسات بيروقراطية غير واقعية وقرارات مزاجية وتقديمه لمعطيات وإحصائيات غير صحيحة في مجملها أفضت إلى خلق بيئة ملائمة لترسيخ منظومة فساد امتصت الثروة الوطنية وكرست اقتصاد الرشوة والمحسوبية وأغرقت البلاد في مديونية غير منتجة وخضعت إلى إملاءات الممولين أو ما باتوا يعرفون بالقاتلين الاقتصاديين، لتنتهي الثروة إما مهرّبة لا نجد سبيلا ولا إرادة لاسترجاعها وإما مرتهنة بعقود استغلال غير متكافئة وإما مصادرة تدار بلا كفاءة ولا حوكمة.
وها أننا اليوم وبعد أربع سنوات نجد أننا ما نزال نفتقر إلى منوال اقتصادي جديد لتصحيح الأوضاع القديمة ، ونتساءل بكل مشروعية: ما الذي فعلناه طيلة هذا الوقت ؟ ولماذا تحمّلنا وزر المواصلة في المنوال القديم رغم النزيف الحاصل لاقتصادنا وماليتنا العمومية حتى بتنا نتحدث عن الاقتراض لسداد الأجور ؟ ولماذا الثورة أصلا إن كان المنوال القديم يليق بنا ونليق به؟ وهل كانت مئة يوم من عمل حكومة الصيد كافية فعلا لإعداد وثيقة توجيهية لمنوال التنمية كأخطر ملف في تونس اليوم؟ .
لقد كانت مرجعية السيد رئيس الحكومة في هذا الخطاب هي برنامج الحكومة المقدم لمجلس النواب بتاريخ 4 فيفري 2015 والذي منحت على أساسه الثقة. برنامج لا يستند إلى البرنامج الانتخابي لحزب نداء تونس الفائز بالانتخابات ولا لبرنامج أي مكون حزبي من مكونات الحكومة بل هو برنامج ظرفي محكوم بالملفات الملحة وخاصة منها الأمني والاقتصادي وبالتالي فهو برنامج بلا رؤية استشرافية ولا يعلم تحديدا أين هو ذاهب بالبلد أو ما إذا كان يسير على المسار الصحيح؟ ومن هو الطرف السياسي الذي سيجني مكاسب النجاح وسيتحمل مسؤولية الفشل عند المحاسبة السياسية في الانتخابات المقبلة؟.
برنامج طغى عليه إعلان النوايا أكثر منه تخطيط حقيقي للمستقبل ، وإسقاط لحزم الإصلاحات المشتة بين القطاعات أكثر منه وضع عمود فقري لإنجازات منسجمة تؤسس لمنظومة إصلاحية ، وهو أمر يمكن فهمه من حكومة ما تزال تتلمس ملفاتها تحت ضغط المطلبية المجحفة والجوائح الطبيعية والتهديدات الأمنية وانكماش الاستثمار ومطالبة الممولين الأجانب بإصلاحات لا شعبية ومطالبة المستثمرين الوطنيين بغلق ملفات الفساد كأن شيئا لم يكن.
ولذلك نستشعر اليوم تراجعا نسبيا عن مرجعية خطاب 4 فيفري 2015 والعمل على تنسيبها من خلال إقرار رئيس الحكومة صراحة وبدون مناورات بغياب خطة ومنوال تنمية واضح ، وبأن حكومته تكتفي بإجراءات حينية تخص تنفيذ ميزانية الدولة وتعمل على دراسة الوضع الحالي لاتخاذ إجراءات عاجلة من ناحية، وضبط رؤية مستقبلية للخمس سنوات القادمة من ناحية أخرى، والحقيقة أن هذا الوضع لا يليق ببلد كتونس اعتمد التخطيط لسياساته وخياراته وطموحاته منذ سنوات الاستقلال الأولى حتى كان التخطيط وزارة وصار في كل وزارة إدارة للبرمجة والتخطيط والاستشراف واليقظة الاستراتيجية.
كما أن رسم البرامج الحكومية للفترة المقبلة  مثلما نستشفه من الخطاب تم من خلال زيارات ميدانية أولية لوزراء الدولة بغاية استكشاف المشاكل عن قرب، والحال أن هذه المشاكل قد شخّصت من قبل وقدّمت في شأنها الوصفات تلو الوصفات ، ثم دعي  كل وزير لتقديم خطة إنقاذ عاجلة تهم قطاعه، والحال أن جل الوزراء يفتقرون إلى الخبرة في القطاعات التي قذفوا فيها وبالتالي فإنهم سيلجؤون وبكل بساطة إلى وصفات جاهزة لدى الإدارة ستستعمل في أغلبها على سبيل التجربة الأولى ، أو إلى مسكنات سيعود بعدها الوجع أشد وأنكى.
وبالمحصّلة فإن إهمال التخطيط الاستراتيجي في تونس وقصور المؤسسات العاملة عليه وقلّتها قد بات يكلف الدولة التونسية ثمنا باهضا من الناحية الاقتصادية ، وحتى القطاعات الجديدة التي اعتبر رئيس الحكومة أنها واعدة على غرار الاقتصاد الرقمي والاقتصاد الأخضر والاقتصاد التضامني والتي رأى أنها يجب أن تكون أساس المخطط الخماسي 2016-2020 لا يوجد دراسات استراتيجية تثبت جدواها أو قدرة الاقتصاد التونسي التنافسية فيها أو أن هذه القطاعات هي فعلا مفاتيح المستقبل في الوقت الذي يتحدث فيه الباحثون الاقتصاديون عن التجديد الاجتماعي كملهم لاقتصاد المستقبل وعن التكنولوجيا المالية كبديل لمنظومات التمويل التقليدية وعن الدور المتنامي للمشروعات الناشئة متناهية الصغر.
إهمال التخطيط الاستراتيجي كذلك في مستوى الإصلاحات الكبرى لن يفضي إلاّ إلى استيراد تجارب الآخرين لإسقاطها على واقعنا الذي قد لا يتلاءم معها كما فعلنا سابقا، فنجترَ بذلك  فشل تجارب الإصلاح السابقة في التعليم والصحة والإدارة ومنظومات الدعم والجباية لنصل إلى ما نحن عليه من انهيار كامل للمنظومات بعد أن تكون كلفتنا من الوقت والديون قد أغرقتنا متجاوزة حد  53 بالمائة من الناتج الداخلى الخام الذي هي عليه الآن والذي هو كارثي بكل المقاييس.
ويبدو أن المخطط الخماسي المقبل إن توافقت عليه جميع الأطراف الوطنية بكل تناقضاتها سيكون حاسما في تاريخ تونس الحديث فإما أن يضعها في الاتجاه الصحيح نحو التقدم والتنمية والتطور ونكون بذلك قد دخلنا بالفعل طور الجمهورية الثانية ، وإما أن يفشلها ويجهض معها التجربة الديمقراطية الحقيقية والوحيدة في الوطن العربي، ومن هنا تتأتى مسؤولية من سيعدّ هذا المخطط ومن سيتحمل قيادة هذه المرحلة أمام الشعب وأمام العالم وأمام التاريخ، كما سيتضح مدى جدية الحكومة في تشريك منظمات المجتمع المدني وأهل الذكر في صياغته.

التخطيط الاستراتيجي للمرحلة المقبلة يجب ألا يقتصر على استقراء واقعنا المتميز بالتقلب وضبابية المشهد في وجود عوامل دخيلة عن بيئتنا السياسية والاجتماعية والثقافية كالتطرف والإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للدول وإنما يجب أن يأخذ في الاعتبار التحولات الإقليمية والدولية بكل ما فيها من أعباء وكل ما تتيحه من الفرص كذلك. وبالموازنة بين الاستقراءين الداخلي والخارجي يمكن بناء صورة لمستقبلنا ميزتها أننا نصنعها بأيدينا وليس تفرضها علينا الظروف.

بقلم: عبد المجيد المكي








شارك الموضوع عبر جوجل+

عن Unknown

المنظمة التونسية للدراسات الاستراتيجية، هي جمعية تطوعية ذات صبغة علمية بحثية تنشط في مجال البحوث والدراسات الاستراتيجية . تهدف المنظمة التونسية للدراسات الاستراتيجية إلى : إجراء الأبحاث والدراسات العلمية والتطبيقية في مجالات التخطيط الاستراتيجي توفير فضاء فكري ملائم لاستيعاب الأفكار والدراسات في قضايا التنمية ووضعها على ذمة صناع القرار. المساعدة على تأطير أعمال البحث الاستراتيجي والأكاديمي والعمل على إنجاحها وتنزيل خلاصاتها في الواقع. .المساعدة على نشر ثقافة التخطيط الاستراتيجي.
    تعليق عبر جوجل+
    تعليق عبر فيسبوك

0 commentaires :

إرسال تعليق