مقالات


منظومة مكافحة الفساد في تونس: بين مطرقة الإصلاح وسندان الدّولة العميقة



الجزء الثاني: الإصلاح، خطوة إلى الأمام .. خطوتان إلى الوراء


بقلم : عبد المجيد المكي 


خلافا لما يراد ترسيخه في الأذهان من أن دولة الاستقلال في تونس قد خلت من منظومة ناجعة لمكافحة الفساد فإن الواقع هو خلاف ذلك، حيث أن الدولة الفتية قد وضعت أسس هذه المنظومة منذ تبني دستور الجمهورية الأولى سنة 1959 وتطورت عبر الزمن وفق منطق تنظيمي محكم جعلها تتحول من مؤسسات مشتتة للحوكمة ومكافحة الفساد والرشوة  إلى مؤسسات ذات وظيفة في مصفوفة منطقية لها عقل مدبر ونظام عمل وتوزيع أدوار تحت إشراف سلطات صاحبة قرار ولو ببعض الشطط من حيث مركزية هذا القرار، ولذلك فإنه من الحيف أن يدعي البعض أنهم ينطلقون في مهمة الإصلاح من صحراء قاحلة أو من عدم.

هذا لا يعني بالطبع أنه لم تكن هنالك نقائص في منظومة الحوكمة ومكافحة الفساد وإلا لما حصلت ثورة 14 جانفي 2011 أصلا، كما لا يعني أنها كانت منظومة متكاملة لا تحتاج إصلاحات عميقة ، بل على العكس من ذلك تماما، فقد كانت المنظومة تعاني من جملة من الصعوبات والنقائص التي أظهرتها عديد الدراسات ومن بينها "تقييم مصداقية القطاع العمومي في تونس" والذي تم بمبادرة من الاتحاد الأوربي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ونشر في ديسمبر 2012.
وقد أظهرت مختلف عمليات التقييم نقائص كان من أهم عناوينها:
-         غياب الاستقلال الهيكلي والوظيفي لمجمل هياكل مكافحة الفساد.
-         ضعف الموارد وتحديد الصلاحيات بما يحد من النجاعة.
-         غياب التعهد التلقائي بحالات الفساد وترك تقدير ذلك لأصحاب النفوذ والقرار وأغلبهم كان جزءا من منظومة الفساد أو تحت تأثيرها.
-         غياب التحفيز مع تواصل التبعية الهيكلية رغم الاستقلال الوظيفي المقبول.
-         ضعف متابعة ملفات الفساد وسوء التصرف وعدم ترتيب تبعات عنها .
-         عدم نشر تقارير الرقابة بما يحرم المواطن ودافع الضرائب من معرفة درجة سوء التصرف في المال العام فضلا عما كان عليه المجتمع المدني من ضعف.
-         الإغراق في أعمال التدقيق والتفقد والرقابة غير المجدية أو محدودة الأثر.
-         ضعف الحماية الشخصية ونقص الضمانات لأعضاء هياكل مكافحة الفساد.
-         الهيمنة الحزبية على البرلمان وتدخل السلطة التنفيذية في القضاء.
-         انغلاق الإدارة ووجود خطوط حمر في التفقد ووجود حصانات بعضها قانوني وبعضها سياسي وبعضها من باب الرقابة الذاتية.
-         ضعف منظومة التربية على نبذ الفساد والتوقي منه.
ولئن كان يتحتم لتصحيح هذا الوضع أن يتم اتخاذ القرارات الجريئة للقيام بإصلاحات هيكلية وتنظيمية لمنظومة الحوكمة ومكافحة الفساد وفقا للتشخيص العلمي الموضوعي لنقائصها، فإن ما حصل فعليا كان كارثيا بكل المقاييس، بل إن بعض "الإصلاحات" على المنظومة كانت هي نفسها عملية فساد حيث ساهمت في تحصين بعض الفئات وخاصة بعض الأصناف من الأعوان العموميين من المساءلة عن دورهم في جرائم فساد ارتكبت من قبلهم أو تحت إشرافهم أو بغض للطرف منهم عليها. وفي مقابل ذلك تم رفض صريح لعديد الإجراءات الفعالة ضد الفساد وتبييض الأموال والتهرب الضريبي والكسب غير المشروع على غرار كشف السر البنكي وإرساء منظومة جبائية عادلة وشفافة وتبرير تضخم الثروات وغيرها.

منظومة الحوكمة ومكافحة الفساد : من الأوركسترا إلى العزف المنفرد
كانت منظومة مكافحة الفساد قائمة على علاقة منطقية بين عدد من المؤسسات التي تلعب كل منها دورا محددا يتكامل مع أدوار البقية ، ورغم بعض الثغرات التي كانت تتسرب منها الكثير من التجاوزات أو التي يترتب عنها التفصي من المسؤولية أو تعويمها إلا أن وجود النسيج في حد ذاته كان مكسبا وأثبت فعالية كبرى في العديد من الملفات الهامة.
أما بعد أن تم قطع الخيط الناظم لها وفقدانها لمرجعياتها بداعي الإصلاح دخلت منظومة مكافحة الفساد في حالة من التخبط التي لم تكن وراءها نوايا حسنة بالضرورة فقد استفادت من ذلك منظومة الفساد أيما استفادة ليرتفع منسوب الفساد بعد الثورة إلى درجات قصوى وثّقتها التقارير الدولية ودقت نواقيس الخطر في شأنها كان آخرها تقهقر تونس إلى المرتبة 76 في مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره سنويا منظمة الشفافية الدولية في قائمة من 177 دولة، وفي ظل غياب شبه كلي للمحاسبة مع تعزز لوبيات الفساد في الإدارة وفي المنظمات الوطنية وفي المجتمع السياسي وحتى المدني.

وخلافا لما ذهب إليه وزير الوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد، من أن الفساد الكبير قد تراجع في مقابل استفحال الفساد الصغير بعد الثورة، في ما اعتبره ارتباطا وثيقا بإرهاصات ما بعد الحركة الثورية والتدرج في البناء الديمقراطي الذي من أركانه وضع منظومة وطنية لمكافحة الفساد، فإنه لا توجد أية إحصائيات أو استبيانات أو دراسات علمية ذات مصداقية تؤكد صحة هذا الاستنتاج بل إن كل الدلائل تؤكد أن سقوط رموز الفساد الكبير في النظام السابق قد أتاح للفاسدين من الخط الثاني، وهم الأكثر عددا والأشد نهما ، أن يأخذوا بزمام المبادرة في القطاعات الأكثر قابلية للرشوة والفساد وخاصة منها الديوانة والأمن والصحة وقطاعات الطاقة والمناجم والنقل وغيرها، كما أن الفساد الصغير بدوره قد تهيكل وتحول إلى فساد كبير في ظل غياب الدولة المؤقت وتراجع هيبة القانون.
وبتوصيف مبسط فقد كانت منظومة الحوكمة ومكافحة الفساد مبنية في مستواها الإداري على مجموعة من الهياكل الرقابية والتفقدية والقضائية تنسق بينها هيئة عليا للرقابة الإدارية والمالية ترجع بالنظر مباشرة إلى رأس الدولة وتتمتع تبعا لذلك بحد من الاستقلالية التي تتيح لها إنجاز مهامها بكل حرية وحياد ولو بضعف في الإمكانيات ونقص في المتابعة.
وتستفيد هذه المنظومة مما تنجزه منظومات الإشراف والرقابة الداخلية والرقابة المسبقة والمتزامنة وأعمال مراقبي الحسابات وهياكل التعديل والوساطة .
كما تتكامل في أعمالها مع منظومة أمنية وقضائية وهياكل مهنية وتعديلية ونظام اقتصادي مراقب في مجمله، بالتوازي مع منظومة قانونية جيدة في مجملها ولكنها لم تكن مواكبة لتطور حاجيات الإدارة والاقتصاد من ناحية ولم تواكب تطور الجريمة وأدواتها من ناحية أخرى.
أما بعد الثورة فقد حصلت هزّات عنيفة لمنظومة الحوكمة ومكافحة الفساد نتيجة قرارات سياسية وإدارية بنيت على أخطاء تقدير بدائية ومسايرة لموازين القوى المحكومة بصراع لوبيات المصالح والفساد ما سهّل على سبيل المثال فرار عديد المفسدين على غرار "السيدة العقربي" التي استفادت من عدم الانسجام بين هيئة الرقابة العامة للمالية التي دققت في تصرفها والسلطة القضائية التي أطلقت سراحها ولم تمنعها من السفر رغم وجود دلائل على فسادها وشرطة الحدود والأجانب التي غضت الطرف عن سفرها ولجنة المصادرة التي "سهت" عن مصادرة أملاكها لتجد الثغرة التي قادتها بعيدا عن أيدي العدالة في فضيحة غير مسبوقة لعبت فيها الأيادي الخفية لمنظومة الفساد دورا كبيرا ، وجعل الكثير من المفسدين يطمئنون إلى إمكانية الإفلات من العقاب ، بل دفع الأمر بالكثير من كبار الهاربين إلى العودة إلى تونس في تحد صارخ لمشاعر ضحايا الفساد والاستبداد معززين بجوقة كبيرة من منظري المصالحة وبصفقات على كل المستويات القانونية والسياسية والحزبية لطي الصفحة نهائيا دون ترتيب آثار مؤلمة عنها بل يحتفظ أغلبهم بثرواتهم الضخمة مجهولة المصدر.
لقد كان اختيار النظام البرلماني كنظام حكم للجمهورية الثانية أحد أكبر المؤثرات السلبية على منظومة مكافحة الفساد التي وجدت نفسها تترنح بين رأسي السلطة التنفيذية في النظام حيث لم يتم إدخال التعديلات الضرورية للتساوق مع هذا التغيير الجوهري وبعد أن كانت الهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية هي جهاز التنسيق العام بين جميع هياكل الرقابة والتفقد ودائرة المحاسبات وكانت جهاز المتابعة الرئيسي لتقاريرها مستمدة قوتها وفاعليتها من انتمائها الهيكلي إلى رئاسة الجمهورية ونفوذها من التقارير التي تحيلها إلى رئيس الجمهورية أصبحت فجأة بلا قوة ولا نفوذ وأصبحت عاجزة حتى عن القيام بدورها القانوني في التنسيق والمتابعة نتيجة التراجع الكبير في سلطتها الاعتبارية لتفقد بذلك سبحة الرقابة والتفقد الخيط الذي كان يشد حبّاتها. وقد جرت محاولات يائسة خاصة في فترة رئاسة السيد "غازي الجريبي" لإعادة ترتيب الأمور وإعطاء هذه المؤسسة أدوارا جديدة واستقلالية تجعلها تستمد نفوذها من ذاتها ومن الهياكل التابعة لها، إلا أن تضارب المصالح وصراع النفوذ وبروز الزعامات الرقابية قد أجهز على كل المشاريع الإصلاحية المطروحة وأصبحت هياكل الرقابة والتفقد بدون مرجعيات بل وأصبحت السيطرة عليها مدار صراع بين السلط المتنفذة على حساب أبسط مبادئ الاستقلالية.
وقد كادت الهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية أن تندثر لولا بروز الطموح لدى رئيس الجمهورية لتوسيع صلاحياته والتي منها الإشراف على الإدارة والمؤسسات العمومية ليحتفظ بالمؤسسة وليحتفظ أعضاؤها بامتيازاتهم الهامة وهم الذين يباشر الكثير منهم مهامه فيها منذ سنوات طويلة دون تدوير أو تغيير أو حتى تطوير لأسلوب العمل في انتظار أن يوجد لها دور جديد يتناسب مع تموقعها الذي انزاح نحو السياسي على حساب الفني.
أما هيئات الرقابة العامة التي كان لتشتتها الأثر السلبي الكبير على آدائها وعلى كلفة أعمالها (وبدأ فيها الحديث حتى قبل الثورة بسنوات عن تكلفة اللاّوحدة) فلقد تم دق الإسفين بينها بمكر كبير من خلال إحداث التفاوت بينها في التأجير والمنح والاختلاف في الأنظمة الأساسية والتراجع في التنسيق بينها بالتزامن مع تراجع دور الهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية بشكل أنهى حلم الوحدة نهائيا وقلص مرجعية الرقابة العامة من رأس النظام إلى وزير الإشراف، وهي الرسالة السلبية التي تلقفها المتصرفون كل على طريقته.
أما التفقديات الوزارية والتي كانت الثورة أملا لها في الخروج من وضعها المتردي والثانوي جدا في مختلف الأنشطة القطاعية والتي سعت للخروج من الصورة النمطية التي تكون فيها التفقدية مقبرة للكفاءات وتجميدا للمسار المهني فقد وجدت نفسها أكثر تهميشا ولم تتح لها فرصة التطور لا من حيث تقنيات العمل ولا من حيث الرصيد البشري الكافي (وعلى سبيل المثال لا يتجاوز عدد أعضاء التفقدية الإدارية والمالية بوزارة الصحة العشرين متفقدا يغطي نشاطهم كامل الجمهورية في قطاع يضم حوالي 80 ألف عون عمومي).
هياكل الرقابة السابقة والمتزامنة على غرار الرقابة على المصاريف العمومية وهيئة مراقبي الدولة وهيئة مراقبي الطلب العمومي بدأت بدورها تفقد موقعها في المنظومة مع الدخول التدريجي للتصرف في الميزانية حسب الأهداف والتي تقلص من مجال الرقابة السابقة والمتزامنة لفائدة الرقابة اللاحقة حيث تحول التركيز من المساءلة عن طريقة الآداء إلى المساءلة عن مدى تحقيق الأهداف المرسومة والمتفق عليها سلفا، وهو الوضع الذي أفقد الرقابات السابقة والمتزامنة توازنها وجعلها تبحث عن دور جديد في مجال الرقابة اللاحقة ولو على حساب أهل الدار.
يبقى أن أهل الاختصاص يؤكدون أنه من المبكر جدا الحديث عن تحرير كامل للمتصرف العمومي في مرحلة تنفيذ الميزانية خاصة في الإدارات والجماعات المحلية لأن ذلك يتطلب تمكينه من الكفاءات اللازمة والموارد الضرورية للنجاح وهو ما لا يتوفر حاليا، بل إن المتصرف العمومي الذي كان يتقاسم المسؤولية مع مراقبيه يجد نفسه اليوم يتحمل كامل المسؤولية منفردا وهو وضع غير مريح مطلقا. إلا أن ضغط المؤسسات الدولية لتمرير المنهجية الجديدة في التصرف في غياب رؤية لتموقع منظومة المراقبة ومكافحة الفساد قد يفضي إلى أوضاع غير مريحة مطلقا لجميع الأطراف إضافة إلى ما ينطوي عليه من مخاطر ستظهر آثارها لاحقا.
دائرة المحاسبات التي تطورت مع الدستور الجديد لتصبح محكمة محاسبات فقد أغرقت نفسها بالصلاحيات الرقابية لتبرير تضخم هيكلتها حتى وصلت مرحلة الإغراق التي تدفعها اليوم لرفض مهام جديدة على غرار التدقيق في التصرف في الانتخابات وقد تختار قريبا الوقوف على الربوة الرقابية خاصة مع تراجع التنسيق مع باقي هياكل المنظومة وبعد أن تحول التعاون مع الهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية إلى تنافس وتجاذب مبني على موازين القوى الجديدة.
في ظل هذا الوضع تاهت التقارير الرقابية وتقارير التفقد وفقدت المنظومة تناسقها وهيبتها ، أما القضاء الغارق في صراعاته ونضاله من أجل الاستقلالية فلم يعد يستطيع مجاراة النسق فيما يتعلق بمعالجة ملفات الفساد بالتوازي مع دفاعه عن صلاحياته حتى بعد استحداث القطب القضائي المتخصص في ملفات الفساد، ونستذكر في هذا الصدد الخلاف بين الهياكل الممثلة للقضاء وبين لجنة تقصي الحقائق حول الفساد والرشوة حول صلاحيات الضابطة العدلية والتحقيق بمناسبة اقتحام اللجنة لقصر سيدي الظريف الرئاسي ومصادرة ما فيه من أموال وممتلكات.
بقية المنظومة دخلت بدورها متاهة الإصلاحات العشوائية ومن ذلك مرور رئيس الجمهورية بقوة في ختم قانون المجلس الأعلى للقضاء الذي وافق عليه مجلس النواب رغم كل الآراء المتطابقة حول عدم دستوريته. وكذلك المصادقة على القانون المتعلق بالبنك المركزي وما صاحبه من جدل حول الأحكام المتعلقة باستقلالية هذا الهيكل والتي يرى البعض أنها مدخل حقيقي للفساد وللتدخل الأجنبي في سياسة الصرف التونسية بعيدا عن المتطلبات الوطنية التي تحددها الجهات الحكومية بالأساس.
ويبدو حقيقة أن تحالف النهضة والنداء قد أفرغ البرلمان من سلطته الرقابية وحوله إلى مزرعة للقوانين حسب الطلب ولذلك مرت بكل يسر كل قوانين المصادقة على القروض وتجديد عقود الطاقة وإعادة هيكلة البنوك العمومية وقانون المصادرة المدنية الذي أريد به إجهاض مرسوم المصادرة لسنة 2011 حماية للمتنفذين الذين استفادوا وتمعشوا من قربهم وولائهم لمنظومة الفساد زمن الاستبداد. هذا البرلمان الذي، وعلى الرغم من أنه مصدر السلطة في المنظومة السياسية الجديدة، إلا أنه يتم حرمانه من الاطلاع على تقارير الرقابة والتفقد حتى لا تكون نقاشاته ومساءلاته في صميم موضوع الفساد وتبقى محصورة في الهوامش والقضايا العامة ويضل النواب أو من يحضر منهم جلسات البرلمان يجادلون بغير علم، كما أثبتت لجان التحقيق البرلمانية فشلا ذريعا في معالجة المهام الموكولة لها بحكم تركيبتها وحساباتها السياسية وعدم تخصص أعضائها وقد يكون مآل لجنة التحقيق البرلمانية في وثائق بنما سائرا بدوره في طريق الفشل أو التعتيم على الحقائق التي يتورط فيها كل يوم رموز من مختلف الحساسيات السياسية الممثلة في هذه اللجنة في تضارب فاضح للمصالح.
المنظومة الأمنية بدورها تداخلت لديها ملفات التهريب والإرهاب والاحتكار وتجارة العملة والاستيلاء على الملك العام والجريمة المنظمة والعابرة للدول والرشوة والاستيلاء على المال العام وتبييض المال الفاسد فضلا عن الوفايات المشبوهة لكل من يقترب من هذه الملفات، وهي تكاد تعجز عن مجابهة التحدي بمنظومة تتنازعها التعيينات الحزبية والنقابات الأمنية والسمعة السيئة زمن الاستبداد في غياب سياسة إصلاحية حقيقية لبناء أمن جمهوري وجهاز مخابرات وطني يستهدف الفساد لا المناضلين ضده (انظر تقرير معهد كارينغي بتاريخ 16 مارس 2015: الفرصة الضائعة السياسة وإصلاح الشرطة في مصر وتونس).
بدوره الإعلام الذي تجند في الأيام الأولى للثورة لفضح منظومة الفساد وممارسات رموزها أصبح اليوم يمارس بتعسف سلطة توجيه الرأي العام وفق حسابات السياسيين: أحيانا نحو ملفات الفساد وأحيانا نحو القضايا الهامشية كصراع الهوية والشذوذ الجنسي.
وخلاصة ما سبق هو أنه قد أدخلت لا محالة إصلاحات هامة فيما يتعلق بالحوكمة ومكافحة الفساد كان آخرها استحداث وزارة الوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد، إلا أن منظومة الحوكمة ومكافحة الفساد نفسها قد ضربت في مقتل وهمشت وهمش منتسبوها الذين أصبح نضالهم اليومي من أجل البقاء والحفاظ على مكاسب المنظومة يستغرق منهم الوقت الذي كان أحرى أن يوجه نحو مكافحة الفساد. فلمصلحة من هذا يكون إن لم يكن لمصلحة منظومة الفساد نفسها؟
الخطة الوطنية للحوكمة ومقاومة الفساد والرشوة: الدرة المفقودة
الدرّة المفقودة أو الطائر النادر الذي يبحث عنه الجميع في تونس منذ ثورة 14 جانفي هو خطة وطنية للحوكمة ومكافحة الفساد والرشوة. الشعب الثائر ، الممولون والمستثمرون الوطنيون والأجانب، الطيف السياسي، كلهم يدفعون باتجاه هذه الخطة التي لا يعلم أحد من المسؤول عن صياغتها، وما الذي يجب أن تحتويه، ومن المسؤول عن إنفاذها؟. اليوم وأمام الفوضى المؤسساتية أصبح لكل طرف خطته الخاصة به والتي يريد قسرا أن يجعل من الأخرين جزءا منها دون منطق ودون هدف سوى التموقع على رأس منظومة يرى فيها الجميع المكاسب والتشريف وقليل من يرى فيها المسؤولية والمحنة والتكليف.
وبذلك تكون منظومة مكافحة الفساد التي تضخمت مؤسساتها وكثرت ندواتها ومسامراتها قد فقدت الحد الأدنى من نجاعتها مقابل منظومة فساد لم تفتأ تتنظم وتتهيكل وتترسخ وتمد جذورها مدعومة بوضع وطني وإقليمي ودولي مناف لكل روح مقاومة.
الأدهى من ذلك أن منظومة الفساد قد نجحت في استدراج المواطن إلى مربع الصفقات: الأمن مقابل الحرية،  الغذاء مقابل الصمت على الفساد ، المصالحة مقابل الاستقرار والتنمية ، وهكذا لم يعد للحوكمة ومكافحة الفساد منظومة ولا خطة ولا مستقبل، بينما يتفاقم الفارق في التشخيص بين الوزارة التي لا ترى في الفساد إلا الفساد الصغير ولا ترى في تضخيم الفساد إلا عملا شعبويا، وبين الهيئة الدستورية التي ترى في الفساد وضعا مستفحلا كبيرا تقف وراءه البارونات والحيتان والقطط السمان   وترى أن البلاد تعيش مثلث خراب  أضلاعه التهريب والإرهاب والفساد .
الحكومة تسابق الزمن من أجل تبني أكبر عدد ممكن من الإجراءات استرضاء للناخب وتفاعلا مع طلبات الممولين (على نحو تشديد العقوبات في مادة الصفقات العمومية واستصدار قانون حق النفاذ إلى المعلومة ، وإعداد مشروع قانون لحماية المبلغين، وإلغاء المناظرات المشبوهة ...) وهي إجراءات وإن كانت هامة ومطلوبة بإلحاح فإن عدم اندراجها ضمن منظومة وضمن خطة وطنية متكاملة للحوكمة ومكافحة الفساد سيجعل منها مجرد ذر للرماد في العيون خاصة وأن بعضها يدخل ضمن باب التطبيق المستحيل وقد يكون بابا مشرعا لجيل جديد من الفساد.
في المقابل تجد الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد نفسها غارقة في عشرات الآلاف من الملفات الشائكة والشكاوى المعقدة مسلحة بعدد ضئيل من الكوادر المختصة ودون ميزانية بل ودون نظام أساسي، ما يجعلها تميل إلى التصريحات المتفجرة والصدامية لجلب الرأي العام وتحقيق مكاسب سريعة أو لاستباق الفشل بمبرراته.

إننا فعلا لا ندري لمصلحة من يتأجل الإصلاح الحقيقي لمنظومة الحوكمة ومكافحة الفساد ولماذا لا يتم القيام بالإصلاحات الحقيقية المطلوبة والبسيطة بدل الهروب نحو الإصلاحات الهلامية التي تسمعك جعجعة ولا ترى طحينا. ولكن الأكيد أن منظومة الفساد التي تمسك بالكثير من خيوط اللعبة في الإدارة والإعلام وأجهزة الدولة هي المستفيد الأكبر من هذا العبث الذي نراه اليوم والذي يطلب منا غض البصر عنه.

وإلى اللقاء في الحلقة المقبلة 
لآرائكم واقتراحاتكم 
abdelmajid.mekki2@gmail.com
شارك الموضوع عبر جوجل+

عن Unknown

المنظمة التونسية للدراسات الاستراتيجية، هي جمعية تطوعية ذات صبغة علمية بحثية تنشط في مجال البحوث والدراسات الاستراتيجية . تهدف المنظمة التونسية للدراسات الاستراتيجية إلى : إجراء الأبحاث والدراسات العلمية والتطبيقية في مجالات التخطيط الاستراتيجي توفير فضاء فكري ملائم لاستيعاب الأفكار والدراسات في قضايا التنمية ووضعها على ذمة صناع القرار. المساعدة على تأطير أعمال البحث الاستراتيجي والأكاديمي والعمل على إنجاحها وتنزيل خلاصاتها في الواقع. .المساعدة على نشر ثقافة التخطيط الاستراتيجي.
    تعليق عبر جوجل+
    تعليق عبر فيسبوك

0 commentaires :

إرسال تعليق